سورة الشورى - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشورى)


        


{وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29)}
قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي علاماته الدالة على قدرته. {وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ} قال مجاهد: يدخل في هذا الملائكة والناس، وقد قال تعالى: {وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8].
وقال الفراء: أراد ما بث في الأرض دون السماء، كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من الملح دون العذب.
وقال أبو علي: تقديره وما بث في أحدهما، فحذف المضاف. وقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} أي من أحدهما. {وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ} أي يوم القيامة. {إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ}.


{وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31)}
قوله تعالى: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} قرأ نافع وابن عامر {بما كسبت} بغير فاء. الباقون {فَبِما} بالفاء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم للزيادة في الحرف والأجر. قال المهدوي: إن قدرت أن {ما} الموصولة جاز حذف الفاء وإثباتها، والإثبات أحسن. وإن قدرتها التي للشرط لم يجز الحذف عند سيبويه، وأجازه الأخفش واحتج بقوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]. والمصيبة هنا الحدود على المعاصي، قاله الحسن.
وقال الضحاك: ما تعلم رجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب، قال الله تعالى: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} ثم قال: وأى مصيبة أعظم من نسيان القرآن، ذكره ابن المبارك عن عبد العزيز بن أبي رواد. قال أبو عبيد: إنما هذا على الترك، فأما الذي هو دائب في تلاوته حريص على حفظه إلا أن النسيان يغلبه فليس من ذلك في شي. ومما يحقق ذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ينسى الشيء من القرآن حتى يذكره، من ذلك حديث عائشة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سمع قراءة رجل في المسجد فقال: «ماله رحمه الله لقد أذكرني آيات كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا».
وقيل: {ما} بمعنى الذي، والمعنى الذي أصابكم فيما مضى بما كسبت أيديكم.
وقال علي رضي الله عنه: هذه الآية أرجى آية في كتاب الله عز وجل. وإذا كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير فما يبقى بعد كفارته وعفوه! وقد روي هذا المعنى مرفوعا عنه رضي الله عنه، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} الآية: «يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم. والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه».
وقال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ولما يعفو الله عنه أكثر».
وقال الحسن: دخلنا على عمران بن حصين فقال رجل: لا بد أن أسألك عما أرى بك من الوجع، فقال عمران: يا أخي لا تفعل! فوالله إني لاحب الوجع ومن أحبه كان أحب الناس إلى الله، قال الله تعالى: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} فهذا مما كسبت يدي، وعفو ربي عما بقي أكثر.
وقال مرة الهمداني: رأيت على ظهر كف شريح قرحه فقلت: يا أبا أمية، ما هذا؟ قال: هذا بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير.
وقال ابن عون: إن محمد بن سيرين لما ركبه الدين اغتم لذلك فقال: إني لأعرف هذا الغم، هذا بذنب أصبته منذ أربعين سنة.
وقال أحمد بن أبي الحواري قيل لابي سليمان الداراني: ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم؟ فقال: لأنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم، قال الله تعالى: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}.
وقال عكرمة: ما من نكبة أصابت عبد افما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفره له إلا بها أو لينال درجة لم يكن يوصله إليها إلا بها. وروي أن رجلا قال لموسى: يا موسى، سل الله لي في حاجة يقضيها لي هو أعلم بها، ففعل موسى، فلما نزل إذ هو بالرجل قد مزق السبع لحمه وقتله، فقال موسى: ما بال هذا يا رب؟ فقال الله تبارك وتعالى له: يا موسى إنه سألني درجة علمت أنه لم يبلغها بعمله فأصبته بما ترى لا جعلها وسيلة له في نيل تلك الدرجة. فكان أبو سليمان الداراني إذا ذكر هذا الحديث يقول: سبحان من كان قادرا على أن ينيله تلك الدرجة بلا بلوى! ولكنه يفعل ما يشاء. قلت: ونظير هذه الآية في المعنى قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] وقد مضى القول فيه. قال علماؤنا: وهذا في حق المؤمنين، فأما الكافر فعقوبته مؤخرة إلى الآخرة.
وقيل: هذا خطاب للكفار، وكان إذا أصابهم شر قالوا: هذا بشؤم محمد، فرد عليهم وقال بل ذلك بشؤم كفركم. والأول اكثر وأظهر وأشهر.
وقال ثابت البناني: إنه كان يقال ساعات الأذى يذهبن ساعات الخطايا. ثم فيها قولان: أحدهما- أنها خاصة في البالغين أن تكون عقوبة لهم، وفي الأطفال أن تكون مثوبة لهم.
الثاني- أنها عقوبة عامة للبالغين في أنفسهم والأطفال في غيرهم من والد ووالدة. {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} أي عن كثير من المعاصي ألا يكون عليها حدود، وهو مقتضى قول الحسن.
وقيل: أي يعفو عن كثير من العصاة ألا يعجل عليهم بالعقوبة. {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} أي بفائتين الله، أي لن تعجزوه ولن تفوتوه {وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} تقدم في غير موضع.


{وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)}
قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} أي ومن علاماته الدالة على قدرته السفن الجارية في البحر كأنها من عظمها أعلام. والاعلام: الجبال، وواحد الجواري جارية، قال الله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} [الحاقة: 11]. سميت جارية لأنها تجري في الماء. والجارية: هي المرأة الشابة، سميت بذلك لأنها يجري فيها ماء الشباب.
وقال مجاهد: الاعلام القصور، واحدها علم، ذكره الثعلبي. وذكر الماوردي عنه أنها الجبال.
وقال الخليل: كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم. قالت الخنساء ترثي أخاها صخرا:
وإن صخرا لتأتم الهداة به *** كأنه علم في رأسه نار
{إن يشأ يسكن الرياح} كذا قرأه أهل المدينة {الرياح} بالجمع. {فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ} أي فتبقى السفن سواكن على ظهر البحر لا تجري. ركد الماء ركودا سكن. وكذلك الريح والسفينة، والشمس إذا قام قائم الظهيرة. وكل ثابت في مكان فهو راكد. وركد الميزان استوى. وركد القوم هدءوا. والمراكد: المواضع التي يركد فيها الإنسان وغيره. وقرأ قتادة {فيظللن} بكسر اللام الأولى على أن يكون لغة، مثل ضللت أضل. وفتح اللام وهي اللغة المشهورة. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ} أي دلالات وعلامات {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي صبار على البلوى شكور على النعماء. قال قطرب: نعم العبد الصبار الشكور، الذي إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر. قال عون بن عبد الله: فكم من منعم عليه غير شاكر، وكم من مبتلى غير صابر.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12